تحديات الثورة السورية بعد الأسد- قراءة في المشهد ومآلات المستقبل

لا ريب أن الظفر الذي حققه الثوار في سوريا، والمتمثل بالإطاحة بالديكتاتور بشار الأسد وإنهاء عهده المظلم، يمثل انتصارًا مدويًا للشعب السوري الأبي وللربيع العربي الذي طالما عانى من النكسات والإخفاقات نتيجة للثورات المضادة وأذرعها الخفية والظاهرة في المنطقة وخارجها.
ومع تقديم أسمى آيات التقدير والإجلال للشعب السوري العظيم على إنجاح ثورته المباركة، وتحرير البلاد من براثن الاستبداد والظلم، فإننا في الوقت ذاته نعي تمامًا جسامة التحديات الماثلة أمام الثوار والثورة في المرحلة الراهنة والمستقبلية.
لقد آثرتُ الصمت المطبق منذ انطلاق عملية "ردع العدوان"، دون أي تعليق أو إبداء رأي في الأحداث المتسارعة، وذلك رغبةً مني في استيعاب وفهم كامل أبعاد العملية الأخيرة، على الرغم من أنني أزعم أنني متابع دقيق ومستمر للشأن السوري الثائر، إلا أن تشابك وتعقيد المشهد الحالي – ولا يزال – كان حافزًا للصمت الممزوج بالقلق العميق، والاكتفاء بالدعاء الخالص بأن يتم الله نصرة عباده المؤمنين.
ولكن الآن، وبعد سقوط رأس النظام المجرم وسيطرة الثوار الأبطال على دمشق الشام، أصبح من الضروري والخروج عن الصمت والتحدث بموضوعية حول مصائر ومستقبل الثورة السورية، وما يجب اتخاذه من خطوات حاسمة للسير قدمًا بثبات وعزم في مواجهة تعقيدات المشهد الداخلي والخارجي الملتهب.
قراءة في المشهد الراهن
للمراقب المتفحص أن يستشعر الفرحة الغامرة لسقوط طاغية، أو لتحرير أسير من سجونه المظلمة، أو عند استعادة مدينة من قبضة الظالمين، أو عودة لاجئ إلى منزله الذي افتقده طويلًا. ولكن يجب علينا هنا – من باب الاعتبار والاستفادة من عبر الماضي – أن ندرك أن نجاح أي ثورة من الثورات لا يقاس بمجرد الإطاحة برأس النظام المستبد، بل بقدرتها الفائقة على فرض السيطرة الكاملة على الأرض، وتحييد الأعداء والخصوم المتربصين، وبناء نظام بديل سياسي واجتماعي قوي ومتين، قادر على تحقيق أهداف الثورة السامية والحفاظ على جميع مكتسباتها.
أسئلة المآلات الحاسمة
الحديث عن المستقبل السوري المشرق لا يمكن أن يتجاهل تساؤلات محورية وجوهرية تتعلق بالمستقبل المنشود، وهي تساؤلات مقلقة بطبيعتها، ولكن لا مناص من طرحها ومناقشتها بكل شفافية ووضوح، ومن بينها:
- كيف لنا أن نضمن أن تختلف نتائج الحراك الحالي عن سابقاتها في دول الربيع العربي الأخرى أو حتى في فلسطين المحتلة، والعدو واحد لا يتغير، سواء كان إقليميًا أو دوليًا؟
- هل سيقوم الثوار السوريون بالإعلان عن دولة ديمقراطية مدنية لا علاقة لها بفلسطين وقضيتها العادلة، وإثبات ذلك بكل السبل والوسائل الممكنة، حتى لا يكون مصيرهم كمصير غزة الصامدة؟
- هل سيتبنى الثوار نهجًا إسلاميًا وسطيًا معتدلًا ومنفتحًا يحظى بقبول ورضا إسرائيل وأميركا والغرب؟
- هل توجد رؤية واضحة المعالم لمن سيخلف بشار الأسد في قيادة المرحلة القادمة؟
- وهل يتوقع الثوار أن يسلم هذا القائد الجديد – أيًا كان – من عداء الإيرانيين والروس وتنظيم الدولة وقسد وإسرائيل وأميركا؟
- لو افترضنا جدلًا أن المعارضة السورية قد اتحدت وتوحدت فكريًا وحركيًا كالفصائل الفلسطينية في غزة، فهل تمتلك السلاح الكافي والنوعي لمواجهة كل هؤلاء الخصوم الذين تتباين مصالحهم وتوجهاتهم؟
- هل ستقوم القيادة الجديدة بدعم ومساندة غزة بدلًا من حزب الله؟ أو هل ستمنع أحدًا من القيام بذلك أم لا؟
- هل ستقوم بالتنسيق مع إسرائيل أو واشنطن لضمان سلامة الحدود، ومنع تدفق الأسلحة إلى لبنان عبر الأراضي السورية؟
- هل إذا رفضت القيادة الجديدة التنسيق معهم، سيتركهم الكيان الصهيوني وواشنطن والغرب وشأنهم؟
- هل ستتخلى إيران عن ميليشياتها أو الأراضي التي تسيطر عليها في سوريا، أم أنها ستمتص الضربة وتعاود الكرة مجددًا كما حدث في ثورات أخرى؟
هذه التساؤلات الجوهرية لا تنبع فقط من مخاوف داخلية، بل من التعقيدات الإقليمية المتشابكة والمعقدة أيضًا. فروسيا تعتبر سوريا أحد مفاتيح أمنها القومي، حيث تحافظ من خلالها على وجود متقدم في منطقة البحر الأبيض المتوسط لمواجهة حلف الناتو، وإيران تعتبر خسارة سوريا بمثابة كارثة أسوأ من خسارة أجزاء من أراضيها، كما يقر بذلك خبراؤها الاستراتيجيون، وإسرائيل وأميركا تنظران إلى الحراك السوري من زاوية مصالحهما ومخاوفهما الاستراتيجية، وهما تعتبران سوريا حديقة خلفية ودولة عازلة لخصوم إقليميين ودوليين.
تشابهات ومفارقات مع تجارب الربيع العربي
إن ما جرى في دول الربيع العربي الأخرى يقدم دروسًا قيمة وعبرًا بليغة للثوار في سوريا. ففي مصر على سبيل المثال، كان الغياب التام للرؤية الاستراتيجية للمستقبل واضحًا وجليًا بعد سقوط النظام.
وفي تونس، قدمت حركة النهضة تنازلات جمة وكبيرة لضمان القبول الدولي والمحلي، فتحالفت مع أعداء الأمس، ولكن الأمر انتهى بهم أيضًا إلى انقلاب دستوري نفذه الرئيس التونسي وزج بأغلبهم في السجون.
فأولئك الذين لم يتحملوا وجود حركة إسلامية قدمت كل التنازلات الممكنة في دولة لا تحظى بالأهمية الاستراتيجية التي تتمتع بها سوريا، هل يتوقعون أن يتقبلوا بسهولة وجود جهاديين إسلاميين على مقربة منهم، مهما قدموا من تنازلات؟ إن فهم سلوك اللاعبين الإقليميين والدوليين يعد أمرًا بالغ الأهمية لفهم المآلات المتوقعة.
مركزية الخطر الإسرائيلي
يجب أن يعي ثوار سوريا الأحرار أنه لا يمكن تحقيق الاستقرار والرخاء المنشود ما دام الجولان السوري محتلًا، والصراع في غزة وفلسطين مستعرًا، فالاحتلال الإسرائيلي الغاشم هو السبب الرئيسي لكل مظاهر التخلف والمشاكل التي تعاني منها المنطقة، من فساد واستبداد. وقد صرح نتنياهو مرارًا وتكرارًا بأن إسرائيل لن تسمح بوجود دول غير صديقة في محيطها الإقليمي.
حتى هذه اللحظة، كان هناك التقاء مصالح ضمني وغير معلن بين ثوار سوريا من جهة، وبين أميركا وإسرائيل من جهة أخرى، فسيطرة الثوار على المدن والبلدات التي كانت تمثل المنفذ البري للأسلحة التي تصل إلى حزب الله، يخدم الأهداف الأميركية والإسرائيلية، حيث أن إيران وحزب الله يمثلان عدوًا مشتركًا للجميع.
وليس من المستغرب في هذه الحالة، أن إسرائيل التي كانت تشن عشرات الغارات الجوية على أهداف داخل الأراضي السورية في الأشهر الأخيرة، وقصفت ميليشيات إيرانية تحركت من العراق لدعم النظام، لم تقم في المقابل بأي استهداف لقوات "ردع العدوان" أو الثوار!
ولكن ها هي إسرائيل، وبعد يوم واحد فقط من دخول الثوار إلى دمشق، تتحرك بسرعة فائقة لاحتلال مناطق سورية جديدة لتكون منطقة عازلة تحمي بها وجودها غير الشرعي في الجولان السورية المحتلة.
تحدّي "قسد"
تسيطر الميليشيات الكردية المسلحة "قسد" على ما يقارب ربع مساحة الأراضي السورية، وتحديدًا على المناطق الغنية بالنفط والغاز بالقرب من الحدود العراقية والتركية، أو ما يسمونها "سوريا المفيدة"، وهي تحظى برضا إسرائيلي ودعم أميركي سخي بالسلاح والغطاء الجوي، وخططها المعلنة مؤخرًا بالتوغل في الأراضي السورية لتشكيل حزام أمني أوسع يثير الكثير من الشكوك والتساؤلات. فما الذي يمكن فهمه من ذلك؟
من الواضح والجلي أن واشنطن وتل أبيب تسعيان جاهدتين إلى إقامة دولة كردية في المنطقة الشرقية من سوريا، مهمتها الأساسية هي مناكفة تركيا واستنزافها، وأن تكون دولة عازلة لإيران ونفوذها المتزايد في العراق، وتمثل جنبًا إلى جنب مع إسرائيل والولايات المتحدة طوقًا محكمًا يحيط بالنظام السوري الجديد، وتواصل حرمانه من الأسلحة المتقدمة، وتتركه فريسة لصراع الفصائل المتناحرة، فيما تعربد إسرائيل في سمائه وأرضه.
ولا يجب أن ننسى أن سجون قوات "قسد" تضم ما يقارب 10 آلاف مقاتل من تنظيم الدولة الإرهابي، ويمكن عند الحاجة إطلاق سراح هؤلاء ليشكلوا مصدر خطر مسلح على النظام السوري الوليد الذي تؤسسه المعارضة، كما أنهم سيمنحون مبررًا دوليًا لاستدعاء التحالف الدولي للواجهة من جديد، لينقض – بحجة وجودهم – على الثورة ومكتسباتها.
ما الحل؟
إن الحفاظ على مكتسبات الثورة السورية المجيدة يتطلب تبني استراتيجية شاملة ومتعددة الجوانب، تراعي تعقيدات المشهد المحلي والإقليمي، وتتضمن النقاط التالية:
- الحفاظ على الفوضى المنظمة: والمقصود بها عدم التعجل في إنهاء الحالة الثورية سعيًا وراء الاستقرار والنظام.. وهذا خطأ فادح وقعت فيه معظم ثورات الربيع العربي، حيث ظنت أن سقوط الطاغية هو نهاية العهد بنظامه البائد، وأن الساعة لن تعود إلى الوراء، فسعت بسرعة إلى العودة للأوضاع الطبيعية، وكبلت نفسها بقيود الالتزام بقوانين لا يلتزم بها الخصوم. الفوضى المنظمة تتيح للثوار مساحة حركة واسعة يحتاجونها بشدة للتعامل مع فلول النظام السابق، والمخاطر المحدقة بالنظام الوليد. وهي مساحة لا يوفرها التطبيع السريع للأوضاع، فالأخير يقيد حرية الحركة، ويضع الثوار قيد المساءلة.. وهكذا، فلو بادر الثوار إلى حل الفصائل أو دمجها في الجيش أو وزارة الداخلية سعيًا وراء الاستقرار والتنمية، لما أمكن لهم التحرك بذات السرعة والكفاءة لو داهمهم خطر ما.
- التصدي لتغول إسرائيل: الضربات الجوية المتكررة التي تنفذها إسرائيل بشكل شبه يومي على أهداف في سوريا، هي اختبار حقيقي لقوة وعزيمة الثوار. إذ عليهم أن يجعلوا من سماء سوريا خطًا أحمر، فيوقفوا هذا التمادي الذي يهدف إلى تدمير أسلحة سوريا الثقيلة، واحتلال مساحات جديدة من أراضيها.
- التقارب مع روسيا: إن علاقة روسيا ببشار الأسد لا تعني أن الطريق بينها وبين الثوار السوريين مقطوع، فروسيا دولة براغماتية إلى أقصى درجة. ففي السودان على سبيل المثال عملت مع حميدتي، ثم انقلبت عليه بعد أن عقدت صفقة مع الجيش السوداني، واستقبلت قادة حماس نكاية في واشنطن، وطبعت علاقاتها مع طالبان عدوها التاريخي اللدود.
- صحيح أن لروسيا خطايا كبيرة في سوريا، ولكن تحييدها أو كسبها إلى صف الثورة ضروري في ظل الخطر الأميركي الإسرائيلي المحدق على الحدود. وبراغماتية الروس تجعل التفاهم معهم ممكنًا.
- شراكة إستراتيجية مع تركيا: للحفاظ على مكتسبات الثورة، لا بد من دولة وازنة تساندها. تركيا تريد إعادة السوريين إلى بلدهم، وهي ورقة رابحة يراهن عليها الرئيس وحزبه في الانتخابات القادمة. كما تحتاج إلى بيئة آمنة تضمن عدم انطلاق موجات هجرة جديدة إليها. وهي كذلك تريد نظامًا يساعدها في تحقيق أهدافها لمنع قيام دولة كردية برعاية أميركية على حدودها. ثوار سوريا في المقابل، سيحتاجون إلى صديق مخلص يملك الخبرة والمصلحة، ليشارك في مهام إعادة الإعمار، وتدريب الجيش والشرطة وإنشاء القواعد العسكرية، وتأهيل الحكومة، إضافة إلى اتفاقات دفاع مشتركة، فمن شأن هذا أن يمنح غطاء سياسيًا وعسكريًا للنظام الناشئ الذي تحيط به المخاطر من كل جانب.
- عدم استعداء إيران وحزب الله: مهما بلغت العداوة مع هذين الطرفين، فإن الانشغال بالصراع معهما سيكون خطأ فادحًا. وإذا كانت قيادة "ردع العدوان" قد أمنت قيادات النظام وجنوده الذين قتلوا وعذبوا وأفسدوا في سوريا طيلة خمسين عامًا على أنفسهم، فما المانع من معاملة إيران وحزب الله على نفس القاعدة؟! لقد أظهر الثوار فهمًا عميقًا لفقه الأولويات عندما أدركوا أن الوقت ليس مناسبًا للانشغال بتصفية الحسابات الداخلية ونكء جراح الماضي البعيد والقريب. وقد أبدوا رشدا وهم يتحاشون التورط في معارك كلامية أو عسكرية مع إسرائيل قبل أن تستقر أقدامهم على الأرض، وهم من ذات المدخل قد يجدون في إيران وحزب الله خطرًا أقل من الخطر الإسرائيلي والأميركي، بل وربما يجدون أشكالًا من التعاون معهم في وجه عدوهم المشترك الذي يجسد الخطر الأكبر.
- حكومة توافقية مشروع وطني جامع: يجب أن تكون هناك رؤية سياسية واضحة تجمع مختلف الفصائل والتيارات تحت مظلة واحدة. تحقيق ذلك يتطلب تنازلات متبادلة، ولكنها ضرورية لضمان وحدة الصف.
إذن، وكما أسلفنا القول، فإن أخطر ما يمكن أن تقع فيه الثورة السورية، هو الظن أن سقوط النظام يعني نهاية الثورة. فتجارب الربيع العربي أظهرت بما لا يدع مجالا للشك أن ذلك يجعلها هدفًا سهلًا للقوى المضادة.
فالثورة السورية المباركة تحتاج إلى رؤية بعيدة المدى تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الداخل والخارج، وتضع مصلحة الوطن الغالي فوق كل اعتبار. وتحتاج لتحقيق تلك الرؤية، إلى إبقاء آليات الثورة وأدواتها، كإطار سياسي واجتماعي قادر على تحقيق تطلعات الشعب السوري الأبي في الحرية والكرامة والعدالة.